تعرض الإسلام من قديم الزمان لهجوم عنيف من قبل خصومه وأعدائه، وهؤلاء الأعداء منهم الظاهر الواضح في عدائه.
ومنهم المستتر غير المجاهر، وبلية الإسلام بهؤلاء أشد وأنكى، لأنهم يظهرون بمظهر الناصح المشفق.
في الوقت الذي يضمرون فيه الكيد، ويبطنون له العداء، وينسجون حوله خيوط الافتراءات والأكاذيب، متبعين في ذلك وسائل وأساليب خفية لتحقيق ما يرمون إليه من أغراض ومقاصد خبيثة، فتارة عن طريق التشكيك في السنة.
ومصادرها، ورجالها بدعوى الانتصار لآل البيت وإظهار الحب والتودد لهم، وتارة عن طريق اختلاق الروايات، ووضع الأحاديث، وتحريف النصوص الشرعية، بما يتفق مع بدعهم وأهوائهم.
وإذا كنا قد قدَّمنا في الجزء الأول من هذا الموضوع ما يتعلق بالرد على بعض الانتقادات التي وجهت إلى الصحيحين من قديم الزمان، فسنقف في هذا الجزء مع أبرز الأمور التي اتكأ عليها وأثارها صاحب كتاب " أضواء على الصحيحين " وزعم بأنها أدلة كافية بزعمه توجب ضعف الصحيحين والتشكيك فيهما.
هل مات البخاري قبل أن يبيض صحيحه؟!
فمن الشبه التي استدل بها على ضعف أحاديث البخاري وعدم الاعتماد عليهما، أن البخاري رحمه الله مات قبل أن يبيض صحيحه، فكان إتمامه على يد غيره، مستشهداً بكلام المستملي أحد رواة البخاري - والذي نقله عنه الحافظ بن حجر في (مقدمة الفتح صـ 11) - أنه قال: " انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض.
قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل احد، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين أو أكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث) ) .
وهذه الشبهة ليست من كيسه فقد رددها قبله " أبو رية "، والغرض من هذا الكلام إيهام القارئ أن الإمام البخاري ترك كتابه مسودة، ومن شأن المسودات أنها لم تنقح، ومن شأن عدم التنقيح أن يأتي الكتاب على غير ما يرام، كل ذلك ليخلصوا إلى ما يريدون من التشكيك في منزلة أحاديث الصحيحين.
وليس في كلام المستملي و الباجي ما يشهد لذلك إطلاقاً، فإن البخاري رحمه الله لم يمت إلا بعد أن نقح كتابه وهذبه غاية التهذيب، وهذا النقل الذي ذكره الحافظ، إنما هو في شأن التراجم التي بيضها البخاري أي ذكرها، ولم يذكر فيها حديثاً، أو الأحاديث التي ذكرها ولم يذكر لها باباً، بل إن هذا النقل يدل على أن صحيح البخاري كان مدوناً في أصل محرر.
وهذه المواضع على ثلاثة أنواع كما ذكر ذلك المعلمي رحمه الله في (الأنوار الكاشفة 257):
الأول: أن يثبت الترجمة وحديثاً أو أكثر، ثم يترك بياضاً لحديث كان يفكر في زيادته، وإنما أخَّر ذلك لسبب ما، ككونه كان يحب إثباته كما هو في أصله، ولم يتيسر له الظفر به حينئذ.
الثاني: أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة، فيثبت الترجمة ويؤخر إثبات الحديث على لما سبق.
الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضاً للترجمة، لأنه يُعْنى جداً بالتراجم، ويضمنها اختياره، وينبه فيها على معنى خفي في الحديث، أو حَمْلِه على معنىً خاص أو نحو ذلك، فإذا كان متردداً ترك بياضاً ليتمه حين يستقر رأيه، وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل فيما أثبته في كتابه.
وأما التقديم والتأخير فالاستقراء يبين أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم، يتقدم أحد البابين في نسخة ويتأخر في أخرى، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث في نسخة، وتتأخر عنه في أخرى فيلتحق بالترجمة السابقة.
ولم يقع من ذلك ما يمس سياق الأحاديث بضرر، ولذا قال الحافظ رحمه الله في المقدمة بعد إيراده للعبارة السابقة: " قلت وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جداً ".
وليس أدل على أن البخاري لم يمت إلا بعد أن حرَّر كتابه، وعرضه على أئمة الحديث مما قاله أبو جعفر محمود بن عمر العقيلي: "لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل و يحي بن معين و علي بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة وروى عنه الفربري قوله: " ما كتبت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين "، وذلك كي يجتمع له الاطمئنان القلبي مع البحث العلمي.
ومما يدل كذلك على ما بذله البخاري رحمه الله من جهد وتنقيح، وغربلة للأحاديث حتى جاء كتابه في غاية التحرير قوله: " جمعت كتابي هذا من ستمائة ألف حديث ".
وقد استفاض واشتهر أن البخاري لم يمت إلا بعد أن حدَّث بتلك النسخة طلابه، وسمع الناس منه من هذه النسخة، وأخذوا لأنفسهم نسخاً في حياته، وتسابقوا في كتابة أصله، مما يثبت أنه كان مطمئناً إلى جميع ما أثبته فيها.
تقطيع البخاري للحديث:
ومما ذكره أيضاً كدليل على عدم الوثوق والطمأنينة بما ورد من حديث في صحيح البخاري تقطيعه للحديث واختصاره والتصرف فيه، حيث اعتبر هذا العمل تدليساً وخيانة في أمانة نقل الرواية كما زعم.
مع أن مسألة تقطيع الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب مما اختلف فيها المتقدمون، فمنهم من أجاز ذلك إذا كان الحديث مشتملاً على عدة أحكام، كل حكم منها مستقل غير مرتبط بغيره كحديث جابر الطويل في الحج ونحوه، أو كان ما قطع من الحديث لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقاً يفضي إلى فساد المعنى، ومن أولئك الإمام البخاري رحمه الله، ومنهم من منعه واختار إيراد الحديث كاملا كما سمعه.
وكما هو معلوم أن الإمام مسلم اختص بجمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة، بخلاف البخاري فإنه قطعها في الأبواب بسبب استنباطه منها، وأورد كثيراً منها في مظانِّه.
والإمام البخاري رحمه الله لم يكن يعجزه أن يسرد الأحاديث والطرق كلها في باب واحد فذاك أمر يسهل عليه، ولكنه سلك هذا المسلك لجملة من الأغراض الحديثية والفقهية ذكرها أهل العلم، فهي في الحقيقة مزية للبخاري وليست منقصة، ولذا قال الحافظ رحمه الله (مقدمة الفتح 13): " وإذا امتاز مسلم بهذا فللبخاري في مقابلته من الفضل ما ضمَّنه في أبوابه من التراجم التي حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار "
فالبخاري رحمه الله يذكر الحديث في كتابه في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج بحسن استنباطه، وغزارة فقهه معنىً يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه، وقلَّما يورد حديثاً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعان وأغراض تشهد بإمامته وجلالته ورسوخ قدمه في هذا الفن:
ومن ذلك أنه قد يكون المتن قصيرا أو مرتبطاً بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعداً، فيعيده بحسب ذلك مراعياً مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك، فتستفيد بذلك تكثير الطرق لذلك الحديث.
وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا طريق واحدة فيتصرف حينئذ فيه، فيورده في موضع موصولاً وفي موضع معلقاً، ويورده تارة تاماً وتارة مقتصراً على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب.
فإن كان المتن مشتملاً على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فراراً من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه.
وأما اقتصاره على بعض المتن وعدم ذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفاً على الصحابي، وفيه شيء قد يحكم برفعه، فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع، ويحذف الباقي لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه، كما وقع له في حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:
"إن أهل الإسلام لا يسيِّبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون "، هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف، أوله: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إني أعتقت عبداً لي سائبة فمات وترك مالاً ولم يدع وارثاً، فقال عبد الله:
"إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، فأنت ولي نعمته فلك ميراثه، فإن تأثَّمتَ وتحرجتَ في شيء، فنحن نقبله منك، ونجعله في بيت المال " فاقتصر البخاري على ما يعطي حكم الرفع من هذا الحديث الموقوف، وهو قوله: " إن أهل الإسلام لا يسيبون "، لأن مما ليس للرأي فيه مدخل، واختصر الباقي لأنه ليس من موضوع كتابه.
فتبين أن البخاري رحمه الله لا يعيد الحديث إلا لفائده، لكن تارة تكون في المتن، وتارة في الإسناد وتارة فيهما، وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقا، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد.
البخاري والنقل بالمعنى:
وزعم أيضاً أن مما يسلب الاطمئنان والاعتماد على صحيح البخاري ويوجب عدم الوثوق به، أن قسماً من أحاديثه قد رويت بالمعنى، ولم ينقلها مؤلف الصحيح بنفس اللفظ حسب ما سمعها من ناقليها، مستشهداً بما نقله الخطيب في تاريخه والحافظ في مقدمته على الفتح وغيرهم عن البخاري نفسه وهو قوله:
"رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر، قيل له: يا أبا عبد الله بكماله، قال: فسكت، وقول الحافظ عند الكلام على حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الفتح (10/ 227): " وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تاماً بإسناد واحد بلفظين ".
فأما الكلام على الرواية بالمعنى وجوازها وضوابطها، فقد تقدم الكلام عنه في موضوع مستقل بعنوان " رواية الأحاديث بالمعنى هل أدخلت ضرراً على الدين " يمكن للقارئ مراجعته، ومع أن البخاري رحمه الله كان ممن يرى جواز الرواية بالمعنى.
ولكن ليس في تلك العبارة أي دلالة أبداً على موضوع الرواية بالمعنى، بل كل ما فيها أنه كان يسمع الشيء ولا يكتبه حتى إذا وجد له مناسبة أو ترجمة لائقة به كتبه، وسكوته لا يدل على أنه رواه بالمعنى، وغاية ما يدلٌّ عليه جواز الاختصار في الحديث بذكر بعضه دون بعض كما هو شأنه في كتابه، يقطع الحديث الواحد في عدة أبواب مقتصراً في كل باب على ما يليق به كما تقدم.
وأما ما نقله عن الحافظ فهو أبعد ما يكون الرواية بالمعنى، ولم يسقه الحافظ رحمه الله لهذا الغرض، وإنما ساقه في معرض الكلام عن حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن البخاري رواه مرَّة عن شيخه إبراهيم بن موسى بلفظ الجزم: " حتى إذا كان ذات يوم " من غير شك، ورواه هنا بالشك ولفظه: " حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة ".
وقد ظن الحافظ أولاً أن الشك من البخاري، ثم ظهر له أن الشك من شيخ شيخه عيسى بن يونس، وإليك كلام الحافظ ابن حجر حيث قال بعد أن ذكر الروايتين وتحقيق أن الشك ليس من البخاري: " فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدَّثه به تارة بالجزم، وتارة بالشك.
ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، ثم قال: وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاماً بإسناد واحد بلفظين "، وهكذا يتبين لنا الافتراء على البخاري، وعلى الحافظ، وخطف الكلام من غير تثبت وتحر.
البخاري ومسلم والإفراط في الطائفية:
ومما ذكر على أنه من الأدلة التي تدل على عدم الوثوق بالصحيحين وعدم اعتبار صحة جميع ما ورد فيهما، ما أسماه بالتطرف الطائفي المفرط، والتعصب الشديد عند مؤلفيهما، ومن شواهد ذلك كما يزعمون إخفاء كثير من المناقب والفضائل للإمام علي رضي الله عنه، والتي ورد ذكرها في كتب السنة الأخرى، وعدم الاحتجاج بأئمّة أهل البيت، في مقابل الاحتجاج بمن عرف بعدائه لهم كالخوارج وغيرهم.
ولتجلية هذا الأمر ينبغي أن يُعْلم أن القضية عند صاحبي الصحيح لم تكن قضية طائفية ولا تعصب، ولا مداراة ومداهنة، ولكنها قضية شروط اشترطها كل منهم في كتابه، وفي الرجال الذين يخرج لهم، ولذلك التزموا بها، ولم يحيدوا عنها، بخلاف غيرهم ممن لم يلتزم الصحة كأصحاب السنن والمسانيد، فربما تساهلوا بعض الشيء ولا سيما في الفضائل.
وهذا هو السرُّ في أن الإمام أحمد رحمه الله خرَّج في فضائل علي أكثر مما خرَّجه البخاري و مسلم في صحيحيهما، كما أن صاحبا الصحيح لم يلتزما بإخراج كل حديث صحيح، ولا إخراج أحاديث كل الثقات حتى يُلزَما بذلك.
ومما يدفع هذه الفرية عن الإمامين أنهما أخرجا أحاديث كثيرة في فضائل علي وآل البيت رضي الله عنهم تعتبر من أصح الأحاديث في هذا الباب، فقد ذكر كل منهما في صحيحه باباً لفضائل عليٍّ، وبابـ ا لفضائل الحسن و الحسين.
وذلك كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - في حصار خيبر: (لأُعطين الرَّاية غدًا رجلاً يُحبه الله ورسوله، أو يحب الله ورسوله) ، ثم بعد ذلك أعطاها لعلي ففتح الله عليه، ومثل ما رواه البخاري في قصة بنت حمزة، واختصام علي وجعفر وزيد بن حارثة فيها.
فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: (أنت منِّي وأنا منك) ، ومثل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عليٍّ نفسه قال: " والذي فلق الحبةَ وبرأ النَّسمة إنه لعهدُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن لا يحبَّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) ، وله شاهد من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - عند الإمام أحمد.
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداةً وعليه مُرْطٌ مرَحَّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة، فأدخلها ثم جاء علي فأدخله، ثم قال {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} .
كما أخرجا أحاديث كثيرة من رواية أئمة آل البيت كرواية البخاري لحديث (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا) ، في قصة صفية رضي الله عنها من طريق علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وحديث علي رضي الله عنه في قصة الشارفين، في كتاب فرض الخمس قال: " كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني شارفاً من الخمس. . . . " الحديث، وهو من طريق علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه رضي الله عنه.
وأخرج له مسلم أيضاً في باب فضائل فاطمة رضي الله عنها، كما أخرج أحاديث عديدة من طريق جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر، ومنها حديث جابر في وصف حجة النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كانت المسألة طائفية لما رويا شيئاً من ذلك.
وأما إخراجهم لبعض أهل البدع كعمران بن حطان وغيره ممن عرف برأي الخوارج، فقد تقدم الكلام عن ذلك في الجزء الأول من هذا الموضوع بما يغني عن إعادته هنا، والمقصود بيان أن المسألة مبناها عندهم على الصدق والضبط.
وإلا لما أخرجا في الصحيح لجماعة من الرواة ممن رموا بالتشيع، بعد أن ثبت عندهما صدقهم وضبطهم وتحرزهم عن الكذب كعبد الرزاق بن همام الصنعاني، و علي بن الجعد، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وإسماعيل بن أبان، و جرير بن عبد الحميد، و خالد بن مخلد القطواني وغيرهم كثير ويمكن مراجعة (مقدمة الفتح 646) .
فتبين أن الأمر لم يكن أمر تعصب وطائفية، وإنما الأمر أمر شروط الشيخين اشترطاها والتزما بها، ومن ثم لم يخرجا إلا ما صح عندهما وكان على شرطهما، بخلاف غيرهما كالإمام أحمد وغيره فإن شروطهم دون ذلك، وقد روي عنه رحمه الله أنه كان يقول: " نحن إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا ".
عبارات قيلت في الصحيحين:
ولما لم تسعفه الحجة العلمية، والبحث الموضوعي، ذهب يتصيد هنا وهناك ليبحث عن عبارات وأقوال، تسقط مكانة الصحيحين في الأمة، فخرج لنا بطائفة من الأقوال المحرفة المبتورة، التي أساء فهمها وحرفها عن مواضعها عن تعمد وسوء قصد.
فزعم أنه في مقابل الإفراط إلى حد التعسف والغلو في الثناء على الصحيحين وحفظ مقامهما وشأنهما، إلا أن هناك طائفة من علماء أهل السنة أنفسهم نظروا إلى الصحيحين نظرة الباحث الناقد، وصدرت منهم عبارات تشكك من هذه القداسة والهالة التي نسجت حولهما.
بين البخاري والذهلي:
ومن ذلك كلام الإمام الذهلي على البخاري وما جرى بينهما في مسألة اللفظ في القصة المعروفة المشهورة في كتب السير والتراجم، ولسنا في صدد مناقشة وتفصيل ما جرى بين الإمامين، بل بيان موقف أهل العلم من العبارة التي صدرت من الإمام الذهلي وغيره من العلماء، وكيف تعاملوا معها.
فمن المعلوم أن البخاري رحمه الله عندما قدم نيسابور كان الذهلي نفسه يحث تلاميذه وطلابه على حضور مجلسه، فلما أقبل الناس على الإمام وذاع صيته، دخل في نفسه ما لا يسلم منه بشر، فقال عبارته تلك، قال الحاكم أبو عبد الله سمعت محمد بن حامد البزاز قال سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول:
سمعت محمد بن يحيى قال لنا لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور: " اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح، فاسمعوا منه فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى فحسده بعد ذلك وتكلم فيه ".
وقال أبو أحمد بن عدي ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه، فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: " إن محمد بن إسماعيل يقول: (اللفظ بالقرآن مخلوق) ، فامتحِنوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري.
قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه، ثم قال في الثالثة: فالتفت إليه البخاري وقال: " القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله.
وقد أنكر البخاري رحمه الله نسبة هذا القول إليه، وقال - كما نقل عنه محمد بن نصر المروزي -: " من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة "، فنقلها عنه بعض الحساد والمغرضين، وأشاعوا عنه أنه يقول باللفظ، وحملوا عبارته ما لا يحتمل.
ولذا لم يلتفت العلماء وأئمة الجرح والتعديل إلى ذلك بل عدوه من كلام الأقران بعضهم في بعض، وأصلوا قاعدتهم المعروفة وهي أن " كلام الأقران يطوى ولا يروى "، ولذا قال الذهبي رحمه الله في (السير 12/ 456) بعد أن ذكر أن بعضهم ترك حديث البخاري لما بلغه أنه يقول باللفظ: " قلت إن تركا حديثه أو لم يتركاه البخاري ثقة مأمون محتج به في العالم ".
وقد تكلم كثير من العلماء الثقات في بعض، ولم يكن ذلك موجباً لإسقاط ثقتهم وعدالتهم فتلكم أبن أبي ذئب في الإمام مالك، وتكلم سلمة بن دينار في الزهري، وتكلم عمرو بن علي الفلاس في علي بن المديني والعكس، وتكلم أحمد بن أبي الحواري في هشام بن عمار، وتكلم أبو نعيم في أبي عبد الله بن مندة، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة.
ولم يسقطوا عدالتهم إلا ببرهان ثابت وجرح مفسر يتابعه غيره عليه، قال الحافظ رحمه الله في (لسان الميزان 1/ 201): " قلت كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى النبيين والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم ".
موقف أبي زرعة من الصحيحين:
واستدل أيضاً بعبارة لأبي زرعة ينتقد فيها لصاحبي الصحيح لإخراجهم لبعض الرواة كأحمد بن عيسى المصري، والتي نقلها عنه الخطيب في تاريخه، و الذهبي في ميزان الاعتدال، وأنه اعتبرهم متظاهرين بالحديث، أرادوا التصدر وصرف وجوه الناس إليهم.
فقد نقل الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد 4/ 227) عن سعيد بن عمرو، قال شهدت أبا زرعة يعنى الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الصائغ على مثاله - يعني البخاري فقال لي أبو زرعة: " هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه.
فعملوا شيئا يتشوفون به، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها "، وأتاه ذات يوم وأنا شاهد رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة، ما أبعد هذا من الصحيح، يدخل في كتابه أسباط بن نصر، ثم رأى في كتابه قطن بن نسير، فقال لي: وهذا أطم من الأول ".
والجواب أن يقال: إن هذا الجرح من أبي زرعة مفسر، فسره هو بنفسه، وبين سبب إيراده، وهو إخراجه لبعض هؤلاء الرواة المنتقدين الذين ذكر بعضهم، وقد ذكر مسلم تبرير ذلك والرد عليه بعد هذا الكلام، ولهذا لم ينقله المحرف لأنه لا يتفق مع هواه وما أراد.
وهو أحد الوجوه التي ذكرها الإمام ابن الصلاح في كتابه " صيانة صحيح مسلم (1/ 96) ، ونقلها عنه النووي في شرحه (1/ 24) والتي وجَّه فيها إخراج الإمام مسلم لبعض الضعاف أو المتوسطين.
وهو أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه، مكتفياً بمعرفه أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد روي عن مسلم تنصيصاً، حيث قال عندما ذكر له إنكار أبي زرعة:
"إنما أدخلت من حديث أسباط و قطن و أحمد، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات ".
ولا أدل من أن الصواب كان مع الإمام مسلم أن الخطيب نفسه، الذي نقل هذه العبارة: " وثَّق أحمد بن عيسى، ولم يلتفت إلى قول من تكلم فيه، فكان مع الإمام مسلم، فلماذا لم يورد الكاتب كلام الخطيب الذي يقول فيه بعد ذلك: " قلت:
"وما رأيت لمن تكلم في أحمد بن عيسى حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه "، وعبارة الذهبي في الميزان بعد إيراده لكلام أبي زرعة نفسه: " قلت احتج به أرباب الصحاح، ولم أر له حديثا منكرا فأورده ".
والثابت عن مسلم رحمه الله قوله: " عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكلّ ما أشار أنّ له علّة تركته، وكلّ ما قال أنّه صحيح وليس له علّة أخرجته ".
بين البخاري وابن المديني:
ثم نقل عبارة أوردها الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ليرد عليها، ويبين بطلانها، مستدلاً بها على خيانة البخاري، وعدم أمانته العلمية، وسرقته لجهود الآخرين، ورغبته في التصدر والشهرة على حساب غيره.
وحتى يعطوا العبارة قيمة علمية نسبوها إلى الحافظ في (تهذيب التهذيب 9/ 46) وتم بتر الرد، وتعقيب الحافظ عليها، وإغفال الكلام الذي قبله في ثناء العلماء والمحدثين على الإمام البخاري، والدفاع عنه، وبطلان ما نسب إليه.
والعبارة هي قول مسلمة: وألّف علي بن المديني كتاب العلل، وكان ضنياً به فغاب يوماً في بعض ضياعه، فجاء البخاري إلى بعض بنية ورغبه بالمال، على أن يرى الكتاب يوماً واحداً، فأعطاه له فدفعه إلى النساخ فكتبوه له.
ورده إليه، فلما حضر علي تكلم بشيء، فأجابه البخاري بنص كلامه مراراً، ففهم القضية، واغتنم لذلك، فلم يزل مغموماً حتى مات بعد يسير، واستغني البخاري عنه بذلك الكتاب، وخرج إلى خراسان، ووضع كتابه الصحيح فعظم شأنه وعلا ذكره ".
قال الحافظ رحمه الله بعد أن أورد هذا لكلام: " قلت إنما أوردت كلام مسلمة هذا لأبين فساده. . . وأما القصة التي حكاها فيما يتعلق بالعلل لابن المديني، فإنها غنية عن الردِّ لظهور فسادها، وحسبك أنها بلا إسناد، وأن البخاري لما مات علي كان مقيماً ببلاده، وأن العلل لابن المديني قد سمعها منه غير واحد غير البخاري، فلو كان ضنيناً بها لم يخرجها، إلى غير ذلك من وجوه البطلان لهذه الأخلوقة والله الموفق.
فانظر أخي القارئ إلى هذا التلبيس والتحريف المتعمد، وبتر الكلام لتشويه صورة هذا الإمام الجليل.
النووي وصحيح مسلم:
ومما ادعاه أيضاً أن الإمام النووي نفسه شكك في موارد مختلفة في صحة بعض الأحاديث التي خرجها مسلم، بل وصرح ببطلان البعض الآخر، مستدلاً بعبارته في شرحه لمقدمة مسلم على الصحيح: " وأما قول مسلم رحمه الله في صحيحه في باب صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله -:
" ليس كل شيء صحيح عندي وضعته هناـ يعني في كتابه هذا الصحيحـ وإنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه " فمشكل، فقد وضع فيه أحاديث كثيرة مختلفاً في صحتها، لكونها من حديث من ذكرناه، ومن لم نذكره، ممن اختلفوا في صحة حديثه " (شرح النووي 1/ 16) .
وعبارته في شرحه لحديث أبي سلمة في " باب بدء الوحي "، الذي يتضمن أن أول سورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي سورة المدثر، حيث ادعى أن النووي صرح بأن هذا الحديث ضعيف، بل باطل، لأن أول سورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي " اقرأ باسم ربك ".
مع أن هذا الاستشكال في الموضع الأول إنما هو في توجيه عبارة الإمام مسلم، مع ما علم من وجود بعض الأحاديث والرجال المنتقدين - كما سبق - ، وليس فيه أبداً ما يدل على تشكيك النووي رحمه الله في أحاديث الصحيح، أو اتخاذ موقف منها كما أراد هذا الملبس أن يصوره.
والإمام النووي رحمه الله لم يكتف بإيراد الإشكال فحسب، بل أعقبه بما يرده، فذكر توجيه الأئمة لعبارة الإمام مسلم، والتي حذفها المغرض لأنها لا تخدمه كما فعل مع سابقاتها حيث ذكر بعد الكلام السابق توجيه الإمام ابن الصلاح في كتابه " صيانة صحيح مسلم " فقال: " قال الشيخ - يعني ابن الصلاح وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن مراده أنه لم يضع فيه إلا ما وجد عنده فيه شروط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم.
والثاني: أنه أراد أنه لم يضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متناً أو إسنادا، وليس ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته، كما هو ظاهر كلامه، فإنه ذكر ذلك لما سئل عن حديث أبي هريرة (فإذا قرأ فأنصتوا) هل هو صحيح؟ فقال: " هو عندي صحيح، فقيل لم لم تضعه ها هنا؟ ، فأجاب بالكلام المذكور.
وفي موضع آخر عند الكلام على الحديث في باب صفة الصلاة ساق عبارة مسلم وأجاب عنها بقوله: " ثم قد ينكر هذا الكلام، ويقال: قد وضع أحاديث كثيرة غير مجمع عليها، وجوابه أنها عند مسلم بصفة المجمع عليه، ولا يلزم تقليد غيره في ذلك، وقد ذكرنا في مقدمة هذا الشرح هذا السؤال وجوابه ".
وأما ادعاؤه بأن النووي حكم بالبطلان على حديث جابر في صحيح مسلم لأن فيه التصريح بأن أول سورة أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها المدثر " فهو من التلبيس وتحريف الكلام الذي عودنا عليه، وعبارة النووي في الشرح هي كالتالي: " قوله ( (أن أول ما أنزل قوله تعالى: يا أيها المدثر) ) ضعيف بل باطل، والصواب أن أول ما أنزل على الاطلاق: اقرأ باسم ربك ".
فالحكم بالضعف أو البطلان إنما وقع على القول بأن أول ما أنزل من القرآن مطلقاً " يا أيها المدثر "، وليس على رواية جابر، فالحديث ليس فيه أبداً ما يدل على أن أول ما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها المدثر " حتى يحكم بضعفه أو بطلانه، ولو رجع إلى كلام النووي نفسه في شرح حديث عائشة لتبين له ذلك حيث قال:
"وهذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن " اقرأ "، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وقيل أوله: " يا أيها المدثر " وليس بشيء، وسنذكره بعد هذا في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
فالكلام إنما هو على القول لا على الحديث، فإن كان أبو سلمة رواي الحديث عن جابر، أو حتى جابر نفسه ممن يرى هذا القول، فهو قول ضعيف وليس في الروايات أبداً ما يشهد له، مع أنه قد ثبت عن جابر رضي الله عنه في حديث قبله من رواية الزهري عن أبي سلمة التصريح، بأنه أول نزول بعد فترة الوحي وأنها أولية نسبية، فلا منافاة إذاً، فأين تشكيك النووي رحمه الله في أحاديث الصحيح؟ !
الذهبي وصحيح البخاري:
ومما نسبوه إلى الإمام الذهبي أنه قال في بعض أحاديث الصحيح: " ولولا هيبة الصحيح لقلت إنها موضوعة! "، وهو كذب مفضوح على هذا الإمام.
فإن عبارته كما في ميزان الاعتدال في ترجمة خالد بن مخلد القطواني عندما ذكر أن البخاري رحمه روى له حديث الولي (من عادى لي ولياً) قال: " فهذا حديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن خالد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا خرجه من عدا البخاري ".
وغاية ما فيها استغرابه للحديث لأنه من طريق خالد بن مخلد وشيخه شريك مع ما علم من الكلام حولهما، فيقال إن غاية ما في ذلك أنه صحيح عند البخاري، فيكون من الأحاديث المنتقدة على صاحب الصحيح، وليس مما وقع الإجماع على تلقيه بالقبول، ونحن لا ننكر أن في الصحيح شيئاً من هذا، وقد سبق بحث هذه النقطة وما حولها من إشكال.
و الحافظ رحمه الله بين في الفتح (11/ 341) أن للحديث طرقاً أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً حيث قال وهو يرد على الذهبي إطلاقه أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد: " وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود. . . . ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً ثم ذكر بعض الطرق عن عائشة و أبي أمامة و علي و ابن عباس و معاذ بن جبل و أنس.
كما أن المتأمل في عبارة الذهبي يجد فيها مزيد تدعيم لمكانة الصحيح وليس كما أراد المغرضون، فإن الذي جعلهم يترددون في عدِّ هذا الحديث من منكرات خالد (هيبة الصحيح) ، بمعنى أن هذا الحديث لو كان في غير الصحيح لعدَّ من منكرات خالد بن مخلد.
لما عرف من حاله، ولكن الذي منعهم من ذلك إخراج صاحب الصحيح له، لما علم من علمه وإمامته وشروطه، وانتقائه للأحاديث، وغير ذلك من الأغراض التي ذكرت في الرجال المنتقدين، فهو مزيد توثيق وتدعيم لموقف صاحب الصحيح، وليس فيه أبداً أي غض من مكانته كما أراد المشككون، فأين حكم الذهبي على الحديث بالوضع؟ ! .
أما بالنسبة لغرابة ألفاظه فهو كغيره من الآيات والأحاديث الكثيرة التي تحتاج إلى تفسير، وقد فسره أهل العلم، ويمكن مراجعة كلام الحافظ وغيره في شرح الحديث، ولو فتح هذا الباب لردت جملة من الأحاديث الثابتة.
وأخيراً وبعد هذا التطواف، أظن أن القارئ الكريم قد عرف مكانة هذين الكتابين، ومنزلتهما في العلم والدين، وأن شبهات المغرضين حولهما هي مجرد فقاعات وأوهام لا تثبت أمام التحقيق العلمي، وليس أي سند شرعي، ولا يزال الله عز وجل يقيض للسنن والأحاديث في كل عصر من ينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، تحقيقاً لوعد الله في حفظ دينه وكتابه وسنة نبيه.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
_____________
المراجع:
- هدي الساري ابن حجر العسقلاني.
- صيانة صحيح مسلم أبو عمر ابن الصلاح.
- فتح الباري ابن حجر العسقلاني.
- شرح النووي على صحيح مسلم.
- تدريب الراوي السيوطي.
- تاريخ بغداد الخطيب البغدادي.
- ميزان الاعتدال الذهبي.
- سير أعلام النبلاء الذهبي.
- تهذيب التهذيب ابن حجر العسقلاني.
- لسان الميزان ابن حجر العسقلاني.
- الأنوار الكاشفة المعلمي.
- دفاع عن السنة أبو شهبة.
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الأمين الصادق الأمين.
المصدر: موقع إسلام ويب